: مكتبته العلمية
إن كان لكل صاحب مهنة أداة يتداول بها مهنته، ولكل محترف بلغة ينفذ بها رغبته ، فللعالم عدة وأداة وبلغة يبلغ بها الذروة في الأداء والرفعة في الاستزادة ألا وهي المكتبة العلمية التي يتدرج بها العالم إلى سلم الكمال ويصل بها إلى ما يتطلع من آمال ، ولئن سألت العالم أو طالب العلم عن أغلى شيء لديه وأفضل شيء يقتنيه ويحرص عليه ليقولن لك من غير شك هو الكتاب الذي فيه خلوة الأنيس ورفيق نفيس ، لذا تراه يبذل الأثمان والأموال ليحظى بمكتبة يفوح أريجها ، ويزكو طيبها ، ويعبق نشرها . وقد كان شيخنا رحمه الله تعالى من هذا القبيل ، فقد حوت مكتبته نفائس المراجع وكبار الجوامع والمعتمد من المسانيد ثروة في مواضيعها وعظيمة في مباحثها وكأنها نافذة تطل على الدنيا فتكسوها علماً ونضارة ومعرفة . فإذا رأيتها قلت هي رازيّةٌ في تفاسيرها حيث جمعت جل التفاسير ، ومالكية في لغتها لاشتمالها على لب الكتب اللغوية المعتمدة ، وجرجانية في بلاغتها فلم تخل من كتاب يتناول هذا الفن ، وحنفية في فقهها لاحتوائها كتب الفقه للمذاهب جميعها . زد على ذلك الموسوعات الكاملة وأمهات الكتب في علم المنطق
يزداد الكتاب قيمة ويبقى في زهاوته ورونقه إذا تم الحفاظ عليه فإذا طالعه المطالع وقرأ فيه يداعبه بين يديه بعناية ، ويفتح صفحاته ويقلبها برعاية فيبقى محافظاً على جدته وروعته ، وإذا أمسكت كتاباً من نفحة أزهار مكتبة شيخنا لوجدت وكأن الكتاب حديث العهد وجديد الطباعة ، لم تؤثر عليه الأيدي مطلقاً ، ومرد هذا أن شيخنا رحمه الله تعالى له صورة رائعة وطريقة غريبة في فتح الكتاب وتقليب صفحاته وإغلاقه حفاظاً من طي ورقاته حيث كان يمسح بأصبعيه السبابة والإبهام من رأس الصفحة إلى أسفلها فيلامس إبهامه آخرها فيأخذ به الصفحة ويقلبها بتؤدة وذلك حتى لا يعرض ورقة الصفحة إلى تكسر وخطر فلا تكاد تسمع صوتها عند تقلبها ، ولا يثنيها إذا ماانتهى من التلاوة والقراءة، بل يضع علامة رقيقة لذلك ، ثم يغلقه بأدب رفيع ودقة متناهية . ولا يجعل على أصابع يده ريقا ًكما يحصل مع بعضهم وهذه عادة من طلاب العلم سيئة لا ينتبهون لها . كما أنه يقدّر الكتاب ويجله فلا يضعه أرضاً أو يضع شيئاً فوقه من حوائج وغيرها . ولا يكتب على هوامشه كما هو المعتاد عند طلبة العلم ، بل إن أراد ذكر فائدة على حاشيته ، أو قصد تلخيص فائدة لها صلة بالموضوع في الكتاب أخذ ورقة صغيرة وأضاف ما يريد أضافته ، أو يذكر ما يريد تذكره ثم ضمها إلى الموضوع المناسب . ولا يضعه أرضاً كما ذكرنا وذلك تأدباً ومهابة وتعظيماً
أما عن تنظيم المكتبة فقد أوتي إبداعاً غريباً عجيباً وطريقة مثالية رائعة حيث ألِفَ علم المكتبات بالبديهة توفيقاً ، ورقم الكتاب على العلوم سجية وأَلفَ بين المجلدات على نسق فريد مميز . فقد فهرسها حتى فاق ابن النديم دقة وتنظيماً . ولو كان حياً لاقتبس منه الدقة والفهرسة والتنظيم لروعة ما أجاد وأبدع ، وتظهر فائدة ذلك كله في تسهيل الوصول إلى الكتاب المقصود بطريقة فريدة أمام هذا البحر من الكتب والأسفار . وقد كان له اعتناء ظاهر في التنسيق والترتيب حيث حافظ على ألوان المجلدات والمسانيد مع رعاية الأحجام ودمج المواضيع الواحدة ، ليظهر للناظر تناسقها العجيب الغريب . وإذا طلب كتاباً فابتاعه ، وأحضر إليه يقلبه بين كفيه ويحمد الله تعالى أن حفظ الله تعالى العلم وأعان على نشره . ويهيب بالحاضرين حمداً ، ويعتبر ذلك نعمة عظيمةً ومنةً كبرى ، وخاصةً فيما إذا كان الكتاب مفقوداً أو غير موجود وعفا عليه الزمنُ ولم يَبِنْ أثرهُ ثم إذا رآه دُهشَ وأبدى استغراباً مبيناً لعظمة هذا الكتاب وإظهاراً للفرح والبشاشة