كان يقول كثيرا : ياحسرة على المسلمين من بعدنا , ولو لم يكن الشيخ أهلا لدفع البلاء عن الناس لما قال هذه الجملة .
كنت أسأله عن المسألة من الكتاب الذي ندرس فيه : فيقول اسأل المصنف فأقول انه متوفى منذ زمن طويل كيف أسأله فيقول ألا تراه الى جانبكوكان يقول لنا كثيرا : أتسمعون رد النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد حينما تقولون : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فأقول وهل أحد يسمع ذلك فيجيب هناك أناس لو غاب عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة لماتوا .ومنها كنت مع آخرين نقرأ شرح الرضي على الكافية في النحو : فقال لي بعض الأساتذة قل للشيخ هذا الكتاب طويل ولايخلص فليبدله لنا بغيره أخصر وانما قال لي قل للشيخ لأنني كنت أصغرهم سنا ولي دالة عليه , فقلت له يامولانا هذا الكتاب نموت ولاينتهي لو بدلته لنا بغيره , فقال : من قال لك هذا , فقلت فلانا فأجاب بقوله : (( أنا آخر من يقرىء هذا الكتاب في الدنيا وأنت يامحمود آخر من يتمه علي )) وقد صدق الشيخ في كلامه فأنا الوحيد الذي أتممت قراءة هذا الكتاب على الشيخ في مدة أربع سنوات .ومنها لما أتى بي والدي الى دار الحديث وقدمني الى الشيخ , قال بعد السلام أتيت بولدي محمود هل تعرفه فأجابه الشيخ بقوله : أعرفه وهو في صلب جده . وهذا شأن الكمل من المرشدين والمربين يربون تلامذتهم وهم في أصلاب أجدادهم .دعي ذات يوم الى بستان من قبل رجل من أهل الميدان لاأذكر الآن اسمه , قد اشتراه حديثا وقد دعاه من أجل التبرك به , وكان ذلك قبيل وفاة الشيخ بشهور , فاعتذر الشيخ بسبب مرضه فبكى الرجل , فلما رآه يبكي أجابه , ثم قال له يوجد هناك ابريق ومحل للوضوء وغيره فقال الرجل نعم , فقال الشيخ لي قبل الخروج من باب البيت اكتب الحديث التالي : عن علي رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من اتقى الله عاش قويا وسار في بلاد الله آمنا )) . واكتب (( عن علي رضي الله تعالى عنه : من اتقى الله أهاب الله منه كل شيء , ومن لم يتق الله أهابه الله من كل شيء )) . وخرج الشيخ من الباب الى السيارة وقال للرجل غط السيارة حتى لايرانا أحد وخذنا عن طريق المزة بدل طريق الميدان . فقلت في نفسي : لابد أن يحدث لنا شيء بعد كتابة الحديثين .
فلما وصلنا البستان ودخلناه رأيت كلبين كبيرين للحراسة فلم يمكث الشيخ الا قليلا فطلب من الرجل احضار ابريق , فذهب لاحضاره فتأخر لبعد المكان ولما كان الشيخ مضطرا فنظرت فاذا بابريق مكسور العروة فأخذته وملأته ماء وذهبت مع الشيخ , فلما قضى حاجته وخرج أشار الي أن أمشي أمامه – وهذه عادته معي – فلما مشيت أمام الشيخ ورآنا الكلبان هجما علينا وليس في الأرض حجر ولا عصا فتسمرت رجلاي في الأرض وانقطع صوتي لخوفي على الشيخ فجاوزني الشيخ ثم رفع رأسه وقال أما يكفي هذا العواء ؟ فرجعا خاضعين ذليلين ولم أسمع لهما صوتا بعد ذلك حتى رجعنا فنظرت الى الشيخ فقلت له يامولانا ماهذا ؟ فقا لي وعيناه تذرفان ألم تكتب الحديث قبل الخروج من البيتومنها أنه رضي الله تعالى عنه كان يلبس سروالا أبيض فقال لي احذر كم سنة وأنا ألبس هذا السروال فقلت له : خمس فقال برأسه لا , فقلت عشر فأشار برأسه لا , فقلت عشرون فأشار برأسه لا , ثم قال صار له حمس وخمسون سنة , فقلت له أكان مخبوءا فقال لا انما هو غسل ولبس , فقلت : فكيف هذا فقال ألا تسمع مايقال : (( ثياب )) وسكت أي : ثياب الصالحين لاتبلى . ولقد قرأت على الشيخ ولازمته وهو لابسه ثمان سنوات أخر فوق الخمس والخمسين والسروال لايزال على حاله .ومنها أنه سألني عن مكان في أرض رنكوس فيه مقام لسيد التابعين أويس القرني فقلت له نعم يوجد له مقام فشرع الشيخ في وصف ذلك المكان وكأنه هو المنشىء لذلك المكان والقائم عليه وانه لأعرف به مني وممن يعيشون في رنكوس , ومن هذا النوع ماحدثني به مفتي يبرود الشيخ يوسف حيدر رحمه الله حين زيارتي له في يبرود في رحلة لي الى جبل القلمون استغرقت خمسة عشر يوما فزرت فيها أهل العلم .
ومما حدثني به الشيخ يوسف أنه قال أرسل الي الشيخ بدر الدين بأن أحضر الى دمشق الى مدرسة دار الحديث النبوي الشريف التي هي مقر الشيخ فحضرت واذا بالمدرسة جميع مفاتي سوريا فجعل يسأل بعضنا بعضا أتدري لماذا طلبنا الشيخ فيقول كل للآخر لاأدري . ثم دعا الشيخ كل مفت منا الى غرفته على انفراد , ولما دعاني قال لي ياشيخ يوسف كم عدد الأفرنسيين في جبل القلمون عندكم فقلت له لايتجاوزون المائة , فقال كم عدد نفوس الجبل عندكم فقلت له كثير يتجاوزون المائة ألف , فقال الشيخ : هذا العدد الكثير ألا يستطيع قتل الافرنسيين المائة الذين عندكم ؟ ثم قال لي أي مكان عندكم يصلح لقيام الثوار فيه فجعلت أذكر له بعض الأمكنة والشيخ لايرضى بها ويقول لي لاتصلح ثم شرع الشيخ يصف لي جبلا هناك , وقال بأنه يصلح لهذا الغرض , وكأن الشيخ قد عاش في ذلك المكان ويعرفه أكثر مني ومن أهل يبرود . وهكذا تكلم مع كل مفت وحثهم على الثورة على الافرنسيين بعد رحلة قام بها الى البلاد السورية وعندها نشأت الثورة وكان الداعي والمؤجج لها هو المرحوم الشيخ المحدث الأكبر مولانا بدر الدين .ومنها ماحدثني به الشيخ محمود الأشقر قال : كسرت يدي فجبرتها , وبعد مدة آلمتني كثيرا ثم لما فك الجبار قال لي الأطباء أنه حصل لها ( غرغرينة ) لابد من قطعها وعينوا لي يوما لبترها فأتيت الى الشيخ بدر الدين وذكرت له ذلك الأمر , وطلبت من الشيخ الدعاء وأن يرقيني فتبسم الشيخ وبشرني بأنها تبرأ بدون قطع ثم وضع يده المباركة على يدي وجعل يرقيني مقدار ثلث ساعة من الزمن فذهبت بعد ذلك الى بيتي وقمت في الصباح فلم أجد وجعا ولا ألما في يدي ورجعت سالمة كأن لم يكن بها كسر ولاغرغرينة . فجئت الى دار الحديث وقابلت الشيخ وجعلت أقبل نعلي الشيخ وأرقص فرحا بشفائي , والشيخ رحمه يقول لي (( الله يصلحك )) ويبكي وذلك في حضور الشيخ هاشم الخطيب والشيخ علي الدقر رحمهما الله تعالى .ومنها عن الشيخ محمود الأشقر أيضا قال كنت في طريقي الى محل عملي في سوق الخياطين فخطر على بالي أي الشيخين أكبر علما وولاية , هل الشيخ بدر الدين أم الشيخ عبد الحكيم الأفغاني وكانا في مدرسة دار الحديث في غرفتين متقابلتين الشيخ بدر الدين في الغرفة الشرقية والشيخ عبد الحكيم في الغرفة الغربية فحولت طريقي الى المدرسة فلما دخلتها واذا بالشيخين كل أمام غرفته يشير كل الى الآخر بأنه هو .ومنها كما أخبرني فضيلة الشيخ سعيد الهرباوي وزميلي في الطلب عند الشيخ رحمه الله قال : كان الشيخ يقول لنا ونحن عنده في الدرس (( في ناس يذهبون ويطوفون بالبيت , وفي ناس يذهبون الى المدينة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم , أما تذهبون أنتم شدوا حالكم واذهبوا .
فلو لم يكن الشيخ رحمة الله عليه من أهل هذا المقام لما ذكر لنا ذلك وقد شاركت الشيخ سعيد في سماع ذلك أيضا .ومنها أن الحاضرين لدرسه كان كل شخص منهم يحمل في جعبته سؤالا أو أكثر ليسأل عنه الشيخ رحمه الله فيذكر الشيخ من غير سؤال اجوبة الأسئلة فيقوم كل شخص وجوابه معه وهذه الكرامة لاتكون الا للوارث المحمدي أو لآحد الأنبياء وكان الشيخ رحمه الله وارثا محمديا .ومنها ماحدثني بها أحد علماء الداغسطان ولم أتذكر الآن اسمه بعد أن دعاني الى بيته ثم أخرج لي ثلاث صور الأولى لمولانا الشيخ محمد بدر الدين وقال هل تعرف هذا فقلت له نعم أعرفه . والثانية لمولانا الشيخ أمين سويد وسأل هل تعرف هذا فقلت له نعم أعرفه .
والثالثة لرجل من أهل الولاية من بلاد الداغسطان وسأل هل تعرف هذا فقلت له رأيته مرة فقال لي أريد أن أحدثك عن هؤلاء الثلاثة مع العلم بأنه لايعرف أنني من تلامذة مولانا الشيخ بدر الدين فقال يحدثني أولا عن العلامة الشيخ أمين سويدقال أنا كنت مدير مدرسة بالداغسطان وكان الشيخ أمين سويد ممن يساعدني على نفقة الطلاب في المدرسة وكان يزورنا في كل عام على الأغلب ومن مساعداته مأة ليرة ذهبا . وخمسون كيسا من الدقيق وكمية كبيرة من الزيت . وفي العام الذي لايجيء فيه يرسل لنا مع شخص كمية الذهب ويشتري لنا الدقيق والزيت ففي احدى المرات زار المدرسة وتفقد الطلاب ثم أوصاني بهذا الولي الداغسطاني وكانت له غرفة في المدرسة وقال الشيخ أمين عنه مارأيت أحدا له كشف مثل كشفه فأحببته كثيرا وصرت أخدمه بنفسي فدخلت عليه يوما من الأيام فوجدته يبكي وظننت أن أحدا من الطلاب تعدى عليه فسألته عن بكائه وكان صباح جمعة فقال لي في هذه الساعة توفي الشيخ بدر الدين , ثم قال لي اجلس حتى احدثك عن الشيخ بدر الدين فجلست الى جانبه فأنشأ يقول خرجت الى الحج عن طريق البر مع جماعة كثيرة وكان الشيخ بدر الدين خارجا الى الحج أيضا في ذلك العام وما اجتمعت به وما رأيته قبل ذلك أبدا . ولما اجتمعت القافلتان ونزل الحجيج للراحة واذا بالشيخ قد أرسل رسولا يدعوني اليه فلما حضرت أشار الشيخ بيده فخرج كل من كان في تلك الخيمة .
فنظر الي الشيخ وقال ان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكلني بالنفقة على اثني عشر ألفا من أولاد الحسين وأعطاني الله تعالى قوة الطيران أطير ليلا وأنفق عليهم , وجميع الأولياء تأتيني بالنفقات الا أنت وهذا من قصور كشفك ثم سكت فوالله ماحدثت بذلك أحدا الا الساعة ولم تصلنا الأخبار بوفاة الشيخ الا بعد أيام كثيرة .
وأخيرا : فان أعظم الكرامات وأجلها الاستقامة على الشريعة ولو لم يكن للشيخ شيء من الكرامات الا كرامة استقامته على الشريعة وحفظ مجالسه حتى من لغو الكلام لكفاه . وفي الحقيقة كل حياة الشيخ كرامات وما ذكرته لك ياأخي الا غيض من فيض