لقد أطنب الكثير من العلماء والأدباء والكتاب في العالم الاسلامي في تراجمهم عن حياة مولانا المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني .
منهم : العالم العامل والمرشد الكامل الشيخ محمد عبد الجواد القاياني المصري – وكان الشيخ القاياني والشيخ محمد عبده ممن نفي مع كثير من علماء مصر الى سوريا ولبنان أثناء حركة عرابي باشا الشهيرة عام (( 1300ه )) , فصاروا يترددون بين بيروت ودمشق , وكانوا في دمشق نزيلين دار محمد سعيد أفندي الكيلاني , وكان ممن حضر للسلام عليهم مولانا الشيخ بدر الدين عليه الرحمة والرضوان
قال المؤلف القاياني في كتابه نفحة البشام في رحلة الشام
الشيخ بدر الدين بن الشيخ يوسف المغربي مدرس السنانية هو من نوادر هذا الزمان فانه شاب صغير السن لم يشتغل كثيرا على المشايخ في الدرس الا أنه لجودة حافظته اشتغل بنفسه وانقطع للمطالعة أناء الليل وأطراف النهار فصار من أهل العلم والاعتبار يقرأ الكتب العظيمة الكبار ويلقي على الطلبة جميع الدروس تعليقا بدون نظر في كراسة أو كتاب وحضرناه ليلة وهو يقرأ شرح البخاري فمكث أكثر من ساعة يقرر في المسائل ويشرح الحديث عن ظهر قلب , وقد زارنا في منزل السيد سعيد أفندي الكيلاني فرددنا عليه الزيارة في مدرسته الملازم لها وهي مدرسة دار الحديث التي كان يقرأ فيها الامام النووي رضي الله عنه وكانت تخربت واستولى عليها رجل نصراني , فانتزعها منه الأمير عبد القادر وأصلحها بواسطة الحكومة والشهامة النبوية وصارت على ماهي عليه عامرة بالعلم والعمل وطلع فيها بدر الدين وحل بعد أن كان أفل منها وارتحل , فالحمد لله على هذه النعمة بالحصول على آثار الأئمة والأخذ بثأر هذه الأمة . ولما قصد الامام السبكي زيارة الامام النووي بالشام وسافر من مصر فوجده قد انتقل الى رحمة الله تعالى فطلب أن يدلوه على محل مدرسته فأدخلوه الى دار الحديث فقال
وفي دار الحديث لطيف معنى * أصلي في جوانبها وآوي
عساني أن أمسّ بحُرِّ وجهي * مكانا داسه قدم النواوي
ومنها : ترجمة الشيخ عبد الواسع اليماني له في كتابه الدر الفريد الجامع لمتفرقات الأسانيد قال : ومن مشايخي من علماء دمشق السيد العلامة المحدث علامة الدنيا بدر الدين الحسني بن الشيخ يوسف وهو من السلالة الطاهرة وهو مغربي , والشيخ يوسف من كبار العلماء المسندين الذين رحلوا الى الأقطار وله مائة شيخ وكلهم أجازوا له , ومن مشايخه من علماء مصر الشيخ الشرقاوي .
وكان المترجم له رحمه الله يحفظ الصحيحين غيبا مع رجالهما وتاريخهما ولايبعد حفظه لشروحهما من فتح الباري والعيني والنووي لما أنه اذا ذكر حديثا جلس ساعة يتكلم في شرح الحديث وما يستنبط منه حتى أقول في نفسي انه لم يبق شيء مما يستنبط من الحديث ثم يقول ويؤخذ من الحديث كذا وكذا ويؤخذ منه كذا وكذا الخ
وكان صائم الدهر لايفطر الا العيدين ولايتكلم بلغو الا بما لابد منه ولايفتر لسانه عن ذكر الله تعالى ولايسمح لآحد في مجلسه أن يتكلم بغيبة .
وقرأت عليه : نوادر الآصول للحكيم الترمذي , وعقائد النسفي في التوحيد , والسعد على العزي في الصرف , والفناري في المنطق مع حواشيه , والهداية في الحكمة والخلاصة في علم الحساب العاملي , وشرح تائية السلوك الى ملك الملوك في علم الزهد , وشرح منظومة ابن الهائم في علم الجبر والمقابلة , والنصف الثاني من الكشاف , والنصف الأول كنت قرأته بصنعاء لدى شيخنا القاضي العلامة الحسين بن علي العمري حفظه الله , وصحيح البخاري كاملا أمليته عليه وهو يسمع مع جملة من الطلبة في دار الحديث , وأمليت عليه مؤلفي المختصر في الترغيب والترهيب وما اليه , وأمرني بتجريد كثير من الأحاديث الضعيفة وطلب مني مطالعته معي في علم الفلك والهيئة , التصريح على التشريح طبع الهند , والجغميتي , وفي زيج بن الشاطر واللمعة شرح الزيج , وقد قرأت هذا الفن مع علماء أهل الكتاب ولم أذكره من جملة مشايخي والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث يجدها كما في الحديث الشريف .
وقد طلب مني أيضا شيخنا رحمة الله عليه مطالعته معي في مؤلفي المطبوع في الشام المسمى بكنز الثقات في علم الأوقات هذا مع علو همته وتحقيقه لجميع العلوم وكبر سنه وكان عمره حينئذ حول السبعين وذلك في سنة 1337ه , فلم يتكاسل عن أخذ بعض العلوم ممن هو أصغر منه سنا وقد أجازني اجازة عامة وخاصة برسالته المطبوعة في سنده لصحيح البخاري عن مشايخه الى المؤلف . ومن مشايخه شيخ الاسلام ابراهيم السقا المصري , وكان قرأ عليه في الأزهر الشريف بسنده الى الأمير الكبير صاحب الثبت المشهور . وأقول هو امام التحقيق والتدقيق وروح جسم العبادة وحليف التقوى والزهاده نهاره صائم وليله قائم , مؤثرا للعزلة عن الناس , تاركا لفضول العيش واللباس , لايحب الشهرة في شيء من أحواله , لايمضي عليه وقت بغير ذكر الله أو تدريس . فوجهه ساطع بالأنوار , وعليه من العبادة آثار , طول نهاره في مدرسة دار الحديث , وبعد صلاة المغرب يذهب الى بيته يقدم له صحن خضار وخبزه فيأكلها فهي فطوره وسحوره , ثم يحضر بعض الطلبة للدرس في بيته بين العشائين , وقبل الفجر يخرج من بيته الى المدرسة والمسافة خمس دقائق , ثم يصلي الفجر في المدرسة ويدخل مكانه للذكر المأثور وبعد طلوع الشمس تحضر الطلبة للدروس في فنون متعددة ولايفتر لسانه عن ذكر الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله ولو في حال الدرس بين السكتات اذا حصل سكوت لسبب .
( أول دخولي دمشق ) في سنة (1330ه ) كنت بعد الحج في المدينة المنورة مرافقا لأحد علماء الأتراك حسين كامل بك رئيس مجلس التدقيقات بصنعاء فسبقني الى دمشق باسبوع ثم وصلت دمشق في المحل الذي سكن فيه المسمى دار السرور وفي اليوم الثاني قال هل زرت الشيخ بدر الدين , قلت لا . فقال : هو أكبر عالم اليوم فقلت في نفسي عالم من العلماء . ثم قال : أنا أزوره كل يوم وأحضر درسه . ثم في اليوم الثاني سافرت الى القدس للزيارة , ثم ذهبت منها الى بيروت فاجتمعت بعلمائها فسألوني كيف رأيت الشيخ بدر الدين , فقلت : مارأيته ثم أفاضوا في الثناء عليه , ثم سافرت الى مصر وهي أول مرة دخلتها فمن سألني من العلماء ولم يعرف الشيخ بدر الدين يقول لي لمجيئك الآن من دمشق صف لنا الشيخ بدر الدين كيف علمه وزهده فأقول ماعرفته ولم أتمكن من زيارته فندمت لتقصيري في ذلك وكان يحصل لدي الخجل كلما كنت أسأل عنه . ثم أخبروني أن مفتي مصر وقتئذ العلامة الأكبر الشيخ محمد بخيت سافر الى الشام لقصد زيارته ومعرفة علمه فحضر درسه العام في يوم الجمعة فدهش من سعة علمه ثم قال لو كان عندنا في مصر لم تحمله العلماء الا فوق رؤوسهم . أقول : أما درسه العام فهو يدرس عقيب صلاة الجمعة والصلاة في أول وقتها وبينها وبين صلاة العصر ثلاث ساعات ويمكث دائما في حال الدرس ثلاث ساعات الى آذان العصر في الجامع الأموي ويحضر لسماع درسه من الناس ماينوف عن الألف ولايظن السامع الا أنه يملي من كتاب من دون توقف في حديث أو تمثيل أوعبارة مع حسن الالقاء , ولقد سمعت المدرسين والوعاظ في بلدان كثيرة فما رأيت مثله قط , ومحققا في جميع العلوم العقلية والنقلية الا الفلك والهيئة كما أخبرني أن نفسه لم تمل اليه في أيام الطلب ( نعم ) فان أكابر العلماء المصريين كالشيخ محمد بخيت والشيخ يوسف الدجوي , اذا تكلموا في موضوع في أي فن كان كأنه ينزف من بحر , ومن سمعهما يقول انه ليس لهما في الدنيا من نظير مع أن بينهما وبين الشيخ محمد بدر الدين بون بعيد , ثم لما علم الله بأسفي لدخولي دمشق ولم أزره وأحضر درسه , وفقني الله الى السفر في السنة الثانية بعد خروجي من مصر الى اليمن ثم رجوعي وكانت طريقي بعد الحج من الشام فوقعت الحرب العظمى وجلست في الشام خمس سنين في دار الحديث في جوار الشيخ ومكاني قريب من مكانه . وكان من ورعه لايفتي بل يحيل الفتوى على أحد العلماء في هذه المدرسة . واذا ثم مشكلة علمية ولم يفد فيها أحد من أهل المدرسة أمر أحدهم بكتب جوابها وهو يملي على الكاتب مع استيفاء أدلتها وقد يحيل بعض ما في المسألة الى محلها فيقول هي في كتاب كذا في صحيفة كذا , ومن ورعه لايؤم أحدا في الصلاة ولايكتب شيئا بخطه . ولدفع مظلمة صدرت من الحكومة على أحد الناس أوبأمر يضر بالرعية يأمر وكيله يكتب الى الحكومة برفع تلك المظلمة ويضع ختمه وعند اطلاع الحكومة على ختم الشيخ , تأمر حالا بانجاز ماأمر به .
وعند وصول أي رئيس دمشق ابان الحكومة العثمانية , أو الحكومة الحالية يصل حالا الى الشيخ للسلام عليه ويطلب الدعاء منه فيوصيه الشيخ بالعدل والنظر بمصالح الناس وازالة المظالم .
ومن عادة الشيخ أنه كان لايخوض في أمر الدنيا بل اذا ثم حادثه أو خبر عجيب أو عن أمور بيته يأتي وكيله الشيخ العلامة الشيخ المكتبي حفظه الله يكلمه بذلك , واذا ساءه ذلك الكلام أكثر من الحوقلة والاسترجاع . وأخلاق هذا الشيخ وكيله وسيرته ومعاملته للناس كمثل صفات مولانا الشيخ بدر الدين والسعي في قضاء حوائج الناس والضعفاء والمساكين .
وكان الشيخ بدر الدين كثيرا مايميل اليّ ويكلمني عن حال اليمن والعلماء وحالة مولانا أمير المؤمنين الامام يحيى حفظه الله تعالى ومحافظته على اقامة الشريعة واجراء الحدود , ثم يقول خذوني معكم الى اليمن أسكن هنالك . واذا زار الشيخ أحدا وصافحه لم يمكنه من تقبيل يده بل يهربها , وبعد ملاطفة الشيخ للزائر بالكلام والسؤال عن صحته وحاله يطلب الزائر منه الدعاء فيقول الشيخ الله يوفقنا ولم يزد على ذلك . وقد يقول ( الله يفرج عن المسلمين ) . واذا أطال الزائر الكلام أوالجلوس ولم يكن وقت درس لقصد الزائر السماع فيقوم الشيخ ويخرج دائرا في حجرة المدرسة ولسانه لم يفتر عن ذكر الله تعالى , وانما خروج الشيخ خشية أن يقع في فضول الكلام أو سماعه لشيء لايعنيه . واذا علم بأن شدة نزلت بأهل بيت , أو كان بأنسان فاقة أرسل لوكيله يسد عنهم تلك الشدة والفاقة. وفي أيام العيد يحضر الناس لزيارته من الأمراء وغيرهم من سائر الطبقات فيغلق على نفسه في مكانه في مدرسة دار الحديث ويأتون الى وكيله ومكان وكيله بازاء مكان الشيخ فيقوم الوكيل بواجب التبريكات للزائرين ويقدم لهم المعتاد من الحلوى والقهوة , وعند خروجهم يدخل الزائرون لزيارة الشيخ ويسلمون عليه وهم واقفون ثم يطلبون منه الدعاء فيجيب عليهم الله يوفقنا وعدم دخول الجميع اليه انما هو بقصد التخفيف على الشيخ لاتكبرا مع كثرة الناس ثم يرد وكيل الشيخ الزيارة لكبراء الناس وهو قائم مقام الشيخ في كل ذلك , وكل ما يتعلق بحوائج أهل بيت الشيخ . واذا خرج الشيخ لصلاة الجمعة في الجامع الأموي أو لزيارة مريض أو جنازة ترى الناس يزدحمون لتقبيله في ظهره وكتفه , وأما يداه فيهربهما تحت ثيابه وبعض خاصته من العلماء يذودون الناس عنه ويقولون لا تؤذوا الشيخ افهموا , والناس يقولون للشيخ ادع لنا فيقول الله يوفقنا . ولبسه جلباب من أسفل ويعلوه من جنسه مثل الجبة بكم قصير وكلاهما قطن من عمل الشام من أدنى النسيج الذي يلبسه الفقراء . وفي بعض الأوقات كنت أنا أطلب منه الدعاء فيقول كعادته الله يوفقنا , فأقول له أدع لي وحدي فيضحك ثم يقول الله يوفقك . واذا مر بطريق عند خروجه من المدرسة بعد المغرب الى بيته ووجد صبيانا يسلم عليهم ويقول كيف حالكم , ومن عرفه من الصبيان يسعى لتقبيله . والخلاصة أن أخلاقه وأحواله مطابقة للأخلاق المحمدية والشمائل النبوية سألت العلامة وكيله , هل ألف الشيخ شيئا , فقال : ألف سابقا في علم الأثر ثم مزقه خشية الشهرة ونحوها . وكان بعض المشائخ من تلامذته حال مذاكرة بعض المسائل التي تحتاج الى شرح طويل يقولون لو تؤلف ياسيدنا في هذا الموضوع رسالة , فيقول الموجود بين أظهرنا من كلام العلماء فيه الكفاية . ومن أراد الاطلاع على ترجمة حياته فليطالع الجرائد المصرية والشامية لتأبينه عند وفاته رحمه الله تعالى . ولم أطلع على شيء منها بل اطلعت على جريدة الايمان الصنعائية فقد ذكرت بعض ما فيه الكفاية . وله كرامات تركت ذكرها ربما ينكرها منكر كرامة الأولياء ولله در القائل
واذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار
قد تم بعون الله تعالى تدوين هذه الرسالة المختصرة المشتملة على تاريخ حياة المحدث الأكبر المرحوم الشيخ بدر الدين الحسني وقد سميتها الدر اللؤلؤية في النعوت البدرية مستعينا ببارىء خير البرية وكان الفراغ منها عصر يوم الثلاثاء الواقع في 19 ذي القعدة سنة 1370ه الموافق 21 آب سنة 1951م .
محمود الرنكوسي