حياته العلميّة
وكان الشيخ ( بدر الدين ) يوصي الشيخ
( محمود )أن لا يقرأ درساً على أحد حتى يُعلمه.
ومرة ً أراد الشيخ ( محمود ) أن يقرأ الفقه الحنفي على الشيخ ( نجيب كيوان ) ، فاستأذن
الشيخ ( بدر الدين ) فأطرق الشيخ وراقب على قلبه ، ثم رفع رأسه وقال له : سأستدعيه يُقرؤك
الفقه هنا في دار الحديث ، وأراد أن يقرأ علم الميراث على الشيخ ( جميل الشطي ) مفتي الحنابله ، فاستدعاه الشيخ ( بدر الدين ) ليُقرأه في دار الحديث ، ثم أراد أن يقرأ علم الصرف على أحد أهل العلم لم يسمه لنا سيدنا الشيخ
( محمود ) ، فاستأذن الشيخ (بدر الدين) فأطرق رأسه ،وراقب على قلبه ، وبعدها رفع رأسه وقال
له : لا تقرأ على هذا .
فسأله الشيخ ( محمود ) لِمَ ؟
قال : لأنه صاحب بدعة .
فقال الشيخ ( محمود ) : أنا آخذ علمه وأترك بدعته . فأراد الشيخ بدر الدين أن يقنعه بدليل عملي ملموس ، وكان يوجد بجانب الشيخ ( بدر الدين ) دائماً مرآة صغيرة ، فأعطاها الشيخ ( محمود )وقال انظر فيها فماذا ترى في المرآة ؟
فقال : صورتي ، فقال له : هل صورتك وجدت داخل المرآة باختيارك أم رغماً عنك ؟ فأجابه : بل رغماً عني . فقال له : وكذلك الأستاذ مع تلميذه تنطبع بدعته في قلبه رغماً عنه .فما كان من الشيخ ( محمود ) إلا أن تراجع عن رأيه وقال: يكفيني هذا المثال .
{ وصية المحدث الأكبر للشيخ( محمود) }
كان المحدث الأكبر الشيخ (بدر الدين) يوصي الشيخ( محمود ) ويقول له: (يامحمود ) لا تترك دار الحديث ، قالها له : أكثر من أربعين مرة ولا تسكن القرى ، وقال له : لو أن طائراً وقف على جدار يفصل بين القرية والمدينة رأسه إلى القرية وذنبه إلى المدينة لكان ذنبه خير من رأسه . كان الجهل قديماً ـ أيها الأفاضل ـ متفشياً في القرى وسميت القرية ضيعة لأن العلم أو العالم يضيع فيها ، أما الآن بحمد الله تعالى كثر العلم في القرى حتى أننا نرى في هذا الزمن أن أكثر أهل العلم هم من الأرياف لملازمتهم دروس العلم والذكر .
وكان ( الشيخ بدر الدين ) رحمه الله تعالى يولي
الشيخ( محمود) رحمه الله اهتماماً خاصاً وعناية فائقة ، ويراقبه عن كثب ويتعهده دوماًواستمراراً وكان يلحظه برقيق توجيهاته ويتحفه بكريم إرشاداته حتى أضحى من أوائل الخصوصيات، لما
كمن فيه من شمائل النباهة والفطانة والصفات .
ويقول له : يا( محمود )، سأتفرغ لك حتى تكمل.
وكان سيدنا الشيخ ( بدر الدين ) يسعى لئن يكون
الشيخ ( محمود ) مديراً للمكتبة الظاهرية ، فقال له : أتدري لماذا أسعى لذلك ؟ فأجابه الشيخ
( محمود ) بقوله : لا،فقال له : لأن فيها كتباً كثيرة لا تستطيع أن تشتريها فتقرأ هناك ما شئت منها
وكان هناك أُناس يُمانعون تسليم الشيخ
( محمود ) إدارة المكتبة الظاهرية ، وفي مرض الشيخ ( بدر الدين ) الذي توفي فيه قال للشيخ
( محمود )
يامحمود :إن شفاني الله من هذا المرض هي لك
ـ لأن ولده الشيخ ( تاج )كان رئيساً للجمهورية
وإن مت سوف أدعو لك .
وبعد وفاة الشيخ ( بدر الدين ) بشهرين رآه في المنام فقال له : يا محمود إني دعوت الله لك ،
فسأله الشيخ ( محمود ) بماذا دعوت لي ؟
فقال : دعوت الله أن يكون معك ملكٌ يسددك ويقاربك .
وجاءه مرة الشيخ ( أبو الخير ) بعد صلاة الفجر
وقال له : يامحمود ، رأيت الليلة رؤيا ، وهو أني
حامل الشيخ ( بدر الدين ) على ظهري ، ونازل به على الدرج ، وهو يقول لي : الله يرضى عنك وعن الشيخ ( محمود ) ، فسألته الشيخ (محمود العطار) ؟ لأنه كان أكبر تلاميذ الشيخ ( بدر الدين ) ، فأجاب : بل تلميذك الشيخ ( محمود الرنكوسي ) .
وكان الشيخ ( محمود ) أثناء طلب العلم ، يصوم عشرة أيام متواصلة واثنتي عشرة يوماً وخمسة عشرة يوماً لا يفطر بينها أبداً، فسألته يامولانا :
ألم تشعر بجوع أو عطش ؟ فأجابني بقوله :
كأني كنت آكل كل يوم خروفاً .
وكان رحمه الله تعالى يقرأ ويطالع الدرس ليلاً حتى يطلع الفجر .
وعندما يحين موعد الدرس ، كان سيدنا الشيخ (بدر الدين) لايسمح لأحد أن يوقظ الشيخ
( محمود ) بل كان يصعد بنفسه ويقف على باب
غرفته ولا يزيد عن قوله السلام عليكم حتى يستيقظ ، ويقول له : حان موعد الدرس .
والله يشهد أني قد سمعت هذا الكلام من فم سيدنا الشيخ ( محمود ) .
وفي يوم من أيام الشتاء الباردة القارصة ، أصابت سيدنا الشيخ ( محمود ) جنابة وهو في دار الحديث ، فخرج إلى البحرة وصار يكسر الثلج من على وجه البحرة ونزل وسطها ، فأصابه مرض يدعى ( ذات الجنب القيحية )
وهو مرض خطير حتى يومنا هذا ـ فأُدخل مشفى
الغرباء الوطني ( بدمشق )وكان المشفى الوحيد بدمشق حينئذ، وكان والد الشيخ ( محمود ) يعوده مراراً وهو مستلق على الفراش في غيبوبة
دائمة لا يقوى على الحراك من شدة المرض ، حتى قال له الطبيب المسؤول لا داعي لأن تتعب نفسك أيها الشيخ وارحم شيبتك، فابنك حالته ميؤوس منها ، وهو ميت خلال أيام لا محالة .
وفي اليوم التالي رأى في الرؤيا أن( رسول الله صلى الله عليه وسلم) دخل عليه، ومعه سيدنا الشيخ ( بدر الدين )، فأشار( رسول الله صلى الله عليه وسلم) بيده للشيخ ( بدر الدين ) بأن يرقيه
فرجع الشيخ ( بدر الدين ) قليلاً إلى الخلف حياءً
من (رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وطلب من ( رسول الله صلى الله عليه وسلم )بحياء وأدب أن تكون الرقية منه ، فوضع ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يده ودعا له بالشفاء ،
فاستيقظ الشيخ ( محمود ) من السبات وهو يميل للإقياء ، فتوجه إلى المغسلة وتقيأ قيحاً ودماً بكمية كبيرة ، فشعر بشفاء تام ، ولم يعد إلى الغرفة بالمشفى ، بل توجه مباشرة إلى دار الحديث وصعد غرفة الشيخ ( بدر الدين ) ، فدخل عليه وهو في الدرس ، فأشار إليه الشيخ ( بدر الدين ) مبتسماً ، كأنه يقول له الحمد لله على السلامة ، فأراد الشيخ ( محمود ) أن يؤدي الشكر لشيخه ، فأشار إليه أن لا تبح بشيء ،
فسأل الشيخ ( محمود ) والده ، هل كان يزوره
أحد في المشفى ؟فأجابه بقوله : إن الشيخ
( بدر الدين ) كان
يأتي يوماً والشيخ ( أبو الخير ) يأتي يوماً ، كأنهما يتناوبان
وقد أكرم الله تعالى شيخنا رحمه الله بسيدة فاضلة كانت مثال الزوجة الصالحة البرة
التقية ، فقد شاركته حياته المثلى صبراً وزهداً
وأسرة ، وأنجب منها السادة والأخيار من الذكور أربعة : محمد ، أحمد ، بهاء ، و مروان . ومن الإناث أربعة وقد أسبل المولى تعالى عليهم وابل ستره وعمهم.
: باعه العلميّ
كان شيخنا رحمه الله تعالى محباً للعلم ومطالعته ,
كثير الدرس والمدارسة ، قد حفظ كتاب الله تعالى
مع إتقان تلاوته بصوت شجي ، ونغم يداعب قلوب الطائعين فيستمطرها ، بكاء وخشوعاً ، كما أنه حوى علوم السنة النبوية فما حدثته بحديث إلا وعنده نظرة خاصة به ، فقيهاً لوذعياً ، خطيباً مصقعاً ، نحوياً ولغوياً بارعاً ، أصولياً بارزاً ،
بلاغياً بيانياً ناطقاً ، منطقياً مبدعاً راوياً مفصلاً
قاضياً مبيناً ، شاعراً رقيقاً دقيقاً ، وأديباً كاتباً ،
ومفسراً رائعاً ، وفلسفياً جامعاً ،
اجتماعياً ناجحاً ، مؤرخاً نقاداً ، وصوفياً منيراً
فرضياً مثبتاً ،
جمع الكمال من أطرافه ، واكتملت فيه أوصافه
وكان في كل ذلك منصفاً عادلاً يطرح المواضيع
على الطلبة ويقرر المسائل الفوائد بطواعية بارزة
وتجرد عن التعصب الأعمى ،الذي ابتلى به كثيرٌ من علماء عصره ومصره ، وهذا الذي أهلك الكثرة
الكاثرة منهم ، كان ميالاً مع الحق الجلي ، يدور حيث دار ، يلقي دروسه وتقريراته ومسائله معتمداً
في ذلك على أمانة النقل فينسب المسائل المقررة
والقواعد إلى مصادرها الأصلية ، ومراجعها الرسمية، حتى يعلم التلاميذ هذه الصفات التي غدت
قليلة ونادرة في مجتمع رهيب .
والداعي لذلك نبوغه العلمي ورسوخه الفكري
ورصانته الوئيدة .
مع كل هذه الصفات الرفيعة الرقيقة والعظيمة في
نبراسها وتطلعاتها ، غدا الشيخ دائرة المعارف
رأيته أشبه ما يكون في عصرنا بمجمع علمي
عظيم في الحديث والفقه واللغة والتاريخ والعلوم
حتى إن الناظر إليه يقول : لله در الشيخ فقد حوى
بين دُفتي قلبه سراً عظيماً وعلماً غزيراً والذي يقلب الفكر والعقل والذي يجول في حياة الشيخ يجد بيقين براعته وروعته ، ويحكم أنه بحر من العلم خضم وقف العلماء بساحله ينظرون إلى كثرة أمواج معارفه التي لا تهدأ ، حيث هي متواصلة
في العطاء ، دائمة التدفق ، ومن يبالغ الغوص في بحره يجد فوائده منثورة وجواهره مأثورة .
وما رأيت أحداً شيخاً أو شاباً رأى الشيخ أو ذُكر عنده إلا وأبدى إعجاباً ظاهراً وواضحاً ، لما له
من مكانة علمية عالية المدى ، وهذا كان بيِّناً
جمع مع ذلك كله في أقواله وأفعاله ، الأمانة
والتقوى والورع ، وقد أثنى عليه أهل عصره ومصره حتى لقب بــ ( صدر المدرسين ، وإمام
المرشدين ، وبقية السلف الصالحين )
وفي إحدى المرات كان يقرر مسألة لغوية لها بعض الفروع واستشهد بأبيات من ألفية ابن مالك
رحمه الله
وصل أو افصل هـــا سلنيه وما
أشبهه في كنته الخلف انتهى
فعجبت من قوة استحضاره وإتقانه وبراعته في تقرير هذه المسألة وغيرها ، وغرسها في القلب وفي النفس .
وكثيراً ما كانت تشتبه علينا عبارة الشيخ عند الشرح حتى نظن أنه يقرأ عبارة الكتاب لنقائها وحسن سبكها وجودتها ، فإذا به تجود بها قريحته
على عادته ويضفي على الشرح شروحاً ، يقعد قواعدها من أصولها وفروعها ويفصل معانيها .
فقد كان رحمه الله بحراً علمياً زاخراً ، فذاً ،
فقد رحل شيخ العلم والخلق