شجاعته وقوته
إن كان أولياء الله تعالى يتمتعون بوابل من التقوى النورانية، والربانية بيْد أنهم يمتازون بالغيرة والشجاعة حيث ينبع من الإيمان ، يقول رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم (ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ) ومخطئ من ظن يوماً أن الصلاح والولاية والتقوى هي التخلي عن الشجاعة والنجدة والصبر والمروءة والقوة والشهامة ، بل هما صفتان متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى مطلقاً ،فالولاية تساوي الشجاعة … والشجاعة… تساوي الولاية ، والعلة المشتركة بينهما ووجه الشبه لتماثلهما والصفة المشبّهةُ لهما الإقدام والمثابرةُ في كلٍ :
الولاية : إقدام ٌ ومثابرةٌ متواصلان على نهجٍ إيماني ـــ اعتقادي ـــ عبادي فعلي وعملي .
والشجاعة : إقدام ومثابرة على الذود والحفظ والصيانة والرعاية والاحترام والتضحية ، إلخ …
وأروي لكم حادثة حصلت على مرأى مني وشاركت فيها مشاركة فعالة ..
والقصة أن الوقت باكر ، ودار الحديث تنعم بباكورة الحضور عادة ،والهدوء قد أحاط المعهد وقاعاته ، فلا تسمع همساً أبداً ، سوى ماء البحرة المتربعة وسط ساحته ، تحدث صوتاً ذا نغم معروف ومألوف عند أهله ، والشيخ رحمه الله يداعب الكتب يطالعها ويقلب بين راحتيه المواضيع كعادته قبيل الضحوة الكبرى ، وعلى حين غرة من الأمر ، وغفلة من الوقت والهدوء ، وبغتة من أهل السوء دخلت عصابة قوامها خمسة أشخاص يحملون العصي الغليظة والسكاكين الكبيرة ، وعيونهم تقدح شراً وضراً ، قاصدين السرقة والضر ،ولأول وهلة من الحاضرين فقد حملهم الهدوء أن أكبر الظن حاجة يريدونها ويبتغونها ، إلا أن الأمر عكس ذلك ، بل هجموا يرفعون أداة الأذى يريدون الضرب وشيخنا
لم يتحرك من مكانه. إلا أنه كان يرفع يده اليمنى فلا يدري المهاجم كيف تتوالى عليه الضربات ، ثم يرفع اليسرى فيضرب بها آخر فلا يعلم ما يحصل له بعد عناء ،وكنت وسيدي ومولاي ننهال عليهم صداً ورداً وضرباً ، واستمر الحال ربع ساعة من الزمن ، والوقت جدُّ عصيب وخطر وأبذل جهدي للذود عن شيخنا ، إلا أن الاستغراب قد ملكني والتعجب قد أحاطني لما رأيت من شجاعة وقوة لم أرى مثلها ولو اجتمع ألف من الرجال الأشداء ، تلك هي كرامة الله وحفظه لأحبابه وأوليائه .
وبعد ذلك هُزمَ الجمع وولى الدبر وقد سالت دماؤهم وتقطعت أوصالهم فاستبقوا الباب يجرّون أثواب الخيبة والذل والعار ، بعد أن جردوا من أداة كانت سبباً لدحرهم وخزيهم ، ونتج عن ذلك إصابة يد شيخنا اليمنى بجروح من كثرة الدفاع بها وفروا ولم يُعرف أمرهم
: زيارته للشيخ لطفي الفيومي والشيخ أحمد كفتارو
حدث عن هذه الزيارة ولا حرج ، وتكلم ما شئت فيها من أحاديث ، ( وليس براء كمن سمع ) فقد كان لقاؤهما براً وصدقاً ووفاءً وتقديراً واحتراماً ومحبة .
وكان كل منهما يتأدب مع الآخر تأدبه مع شيخه واحترامه له ، وليتك ترى تشابه الكلمات وتناسق الهيئات ، وتبادل المحبات ، فقد كانت تعود بهما الذكرى إلى الأيام الأولى والسنين الغابرة الماضية التي كانوا يتبركون بمجالسها وتؤانسهم الإفادة من (الشيخ محمد أبي الخير الميداني ) صاحب السر والمعاني ويرتشفون من نبعه الصافي جل المعارف والعلوم .
ومرة دخل الشيخ ( لطفي الفيومي ) رحمه الله تعالى دار الحديث لزيارة شيخنا الشيخ ( محمود) وقد حكم وقت أذان الظهر ، فقدّم شيخنا الشيخ ( لطفي ) ليصلي بالناس ، وعند الفراغ من الصلاة إذا بسيدنا الشيخ يقول لي هل لاحظت شيئاً مميزاً بحضور الشيخ ( لطفي ) ؟ فقلت : لا ، فقال لي : عندما كبّر الشيخ ( لطفي ) ودخل في الصلاة كان في حالة تجلّي عظيم وحضور مع الله
إذا نطقت القلوب لصدقها ، وتكلمت لصفائها ، فإنها تظهر أجل العبارات وأروع الجمل ، ولقاء المحبين إذا حصل ، واجتماع المخلصين إذا تم ، فإنه له لغة خاصة لا يعقلها إلا أهلها ، ولا يفهمها إلا أصحاب معرفتها .
فقد كان شيخنا غالباً ما يزور سماحة ( الشيخ أحمد كفتارو ) المفتي العام ، فيتنادمان بعبارات الصادقين ، ويتحادثان بلغة المحبين وكلام العاشقين ، ومن ذاق طعم الحب يدريه