قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز ...
{ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلة.فاتقوا الله لعلكم تشكرون.إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يُمدَّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منـزَلين. بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا. يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئِنَّ قلوبكم به . وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم. ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتَهم فينقلبوا خائبين }
في مثل هذا الشهر المبارك . وفي اليوم السابع عشر منه للسنة الثانية من الهجرة النبوية . وقعت أولُ معركة حاسمة في تاريخ الإسلام والمسلمين . هي معركة بدر الكبرى . التي تجلى فيها النصر للمؤمنين . ومكن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم وبدلهم من بعد خوفهم أمناً وعزة.وشرفاً وتأييداً.واندحرت فيها جحافل المشركين وشاهت فيها وجوه الطغاة والمستبدين { إذ يوحي ربُك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا . سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب . فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بَنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله . ومَنْ يشاقق الله ورسوله فإن الله شديدُ العقاب . ذلكم فذوقوه . وأن للكافرين عذاب النار }
أيها المؤمنون الكرام . . .
إن سبب هذه المعركة . هو أن النبي صلى الله عليه وسلم.علم أن عيراً لقريش فيها تجارةُ أهل مكة ستمر في طريق عودتها على قُرْبِ مسيرة من المدينة المنورة . وأذيع في المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم . قد اعتزم اعتراض طريق هذه القافلة لعل الله يمنحه إياها.فيعوض بها المهاجرين عما فقدوه من ممتلكاتهم وأموالهم التي تركوها بمكة عند هجرتهم . ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم . بالتعبئة العامة . وإنما كان الأمرُ بالخيار . لمن شاءَ أن يخرج معه خرج . ومن لم يشاء فلا تثريب عليه . . .
فخرج معه ما يزيد على الثلاثمائة من المهاجرين والأنصار . ولما علم أبو سفيان بن حرب رئيس القافلة . نبأ خروج المسلمين إليه . أرسل إلى أهل مكة ينبئهم بذلك ويطلب منهم النجدة . فخرج قرابةُ ألف مقاتل من أهل مكة . مزودين بالسلاح والعِتاد ولكن أبا سفيان . استطاع الإفلات بتجارة قريش . وأرسل إلى أهل مكة بأنه نجا مع القافلة ولا داعي للخروج . فقال أبو جهل لن نرجع حتى نأتي بدراً وننحر الجذور . ونشرب الخمور . ويتسامع بقوتنا العرب . وسار جيش الباطل في جبروته وكثرته وخيلائه . وسار كذلك جيش الحق في قلته وإيمانه . يقوده البشير النذير . الداعي إلى الله بإذنه السراجُ المنير . . { إذ أنتم بالعدوة الدنيا.وهم بالعدوة القصوى.والركبُ أسفلَ منكم.ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد . ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا . ليهلِك من هلك عن بينة ويحَيى من حَىَّ عن بينةٍ . وإن الله لسميع عليم }
ثم التقى الجمعان . وأصبح الجيشان وجهاً لوجه . وهنا أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . يستشير المسلمين لخوض غمار هذه المعركة الحاسمة . في تلك المرحلة الدقيقة . قام سيدنا ابو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن .ثم قام عمر فقال وأحسن ثم قام المقداد بن عمرو . فقال يا رسول الله : امض لما أراك الله فنحن معك . والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى{اذهب أنت وربك فقاتلا إناههنا قاعدون} ولكن :اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.فوالذي بعثك بالحق.لو سرتَ بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أشيروا عليَّ أيها الناس. وإنما يريد الانصار . فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال والله لكانك تريدنا يا رسول الله قال : أجل فقال سعد . قد آمنا بك وصدقناك .وشهدنا أن ما جئتَ به هو الحق.وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك . فامض يا رسول الله لما أردت . فنحن معك . . .
فوالذي بعثك بالحق . لو استعرضت بنا البحر فخضتَهُ لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد . وما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً . إنا لصَبْرٌ في الحرب عند اللقاء ولعلَّ الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينُك . فَسِر على بركة الله . فَصِلْ حبل من شئت . واقطعْ حبل من شئت . وعادِ من شئت . وسالمْ من شئت . وخذ من أموالنا ما شئت . وأعطنا ما شئت . وما أخذت منا كان أحبَّ إلينا مما تركت . . .
فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سيدنا سعد ثم قال : سيروا وأبشروا فان الله وعدني إحدى الطائفتين . والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم }
{لا يَتَقَدَّمَنَّ أحدٌ منكم إلى شيء حتى أنا أكون دونه.فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى جنه عرضُها السموات والأرض . قال عُمير بن الحِمام يارسول الله جنةٌ عرضها السموات والأرض . قال . نعم . قال : بخٍ بخٍ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم .ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ ؟ فقال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال : فانك من أهلها . فأخرج تمراتٍ من قَرْنِه . فجعل يأكل منهن . ثم قال :إن أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة . فرمى بما كان معه من التمر . ثم قاتلهم حتى قُتِل . رضي الله عنه وأرضاه}
وقد احتدمت المعركة . وانعقد الغُبار على رؤوس المقاتلين . ونزلت الملائكة تنفث في قلوب المسلمين روح اليقين . وتحضُهم على الثبات والإقدام . وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم . يَضْرعُ إلى الله ويقول { اللهم إن تهلِكْ هذه العصابةَ فلن تعبد في الأرضُ } فاستبسل المؤمنون واضطرب المشركون . ووهت عزائمهم امام مطارق ذلك الإيمان المتين . حتى انكسرت قريش . وأخذها الفزعُ . وصاح النبي صلى الله عليه وسلم {شاهت الوجوه}وأسفرت المعركة عن النصر المؤزر للمؤمنين والخذلان الذريع للكافرين . وقد لقي سبعون صنديداً من رؤوس الكفر مصيرهم وسقط في الأسر سبعون كذلك . وفرَّ الباقون يروون لمن خلفهم . أن الظلم مرتعه وخيم .وأن البطر يَجرُّ في أعقابه الخزي والعار.وفتح المسلمون عيونهم على بشاشة الفوز العظيم . تضحك لهم الأرض والسماء . . . { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون } فاتقوا الله عباد الله وراقبوه في سركم وجهركم . واعلموا أن أجدادكم ما انتصروا بكثرة عددهم وعُدَدِهم. وإنما انتصروا بثباتهم على عقيد تهم .وصبرهم وتضحيتهم في سبيل كرامتهم وعزتهم . لقد تَلَقَّى أولئك الابرار تعاليم السماء.وهديَ الرسول صلى الله عليه وسلم تلقياً روحياً وعملياً . فاستقرت في أعماق قلوبهم . وانفعلت بها أنفسهم . فكانوا بها خير أمة أُخرجت للناس في الدين والدنيا.واصبحوا مضرب الأمثال في سمو الأخلاق واستقامة السلوك . وقوة الشخصية . وكمال الرجولة والاعتزاز بالنفس . والاعتزاز بالكرامة . والحياء والاحتشام . والامانة في الدين والتدين . والحقوق والواجبات . والصِلات والمعاملات . والوفاء بالعقود والعهود
وطهارة القلوب . وسلامة الصدور . والتعاطف والتراحم . والإخلاص في القول والعمل . وعفة اللسان وأدب النطق . والصبر وقوة الاحتمال . هذه الأخلاق الإسلامية التي تغلغل سلطانها في قلوبهم.وتفاعلت بها نفوسهم.وأقاموا على قوانينها منهج حياتهم وسلوكَهم . وهي التي حَبَّبَتْ إليهم البطولة والتضحية.وكرَّهتْ إليهم الضعف والهوان.والاستكانة والاستسلام .وفَتَّحتْ أعينهم على آفاق الحياة العزيزة الكريمة وجعلت منهم حماة صادقين لدينهم ووطنهم.يعتزون برجولتهم وشخصيتهم ويؤمنون بأن الحياة في كنف الهوان إهدارٌ لرجولتهم وشرفهم.وامتهان لعزة دينهم وكرمة وطنهم . وأن عظمة الرجال وعزَّ الحياة وكرامة الوجود . ليست في حيازة الأموال المقنطرة وسُكنى القصور الشاهقة . إنما هي في حمل الدروع . والتضحية في سبيل مجد الدين والوطن.والعيش في ظلال العزة والكرامة.ولو سكنوا الأكواخ والخيام ولبسوا الأصواف السماك . . .
هذه الأخلاق الإسلامية . هي التي جعلت من أبناء الصحراء قادة وأبطالا . قهروا الحروب . وأرباب العلوم والفنون . الذين أرادوا العدوان على رسالتهم ووطنهم لأن النصر مع الصبر . والفَرَجَ مع الكرب . وأن مع العسر يسرا . . .
يقول تبارك وتعالى { وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين }.
خطبة الجمعة في جامع الدلامية
للشيخ حسين صعبية بتاريخ 16/1/1998